حسمت إسرائيل سيطرتها الجغرافية على القدس الشرقية، وهي تتجه الآن شيئاً فشيئاً إلى حسم سيطرتها الديموغرافية في المدينة لمصلحة أغلبية يهودية فيها. فبحسب تقديرات رسمية إسرائيلية فإن ما يزيد على 320,000 فلسطيني في القدس الشرقية باتوا يشكلون 39% من عدد سكان القدس بشطرَيها الشرقي والغربي؛ ووسط مخاوف إسرائيلية من أن يقود النمو السكاني الفلسطيني هذه النسبة إلى مستويات أكبر في الأعوام المقبلة، فإن إسرائيل تعمل على خفض هذه النسبة، وبشكل كبير. وقد كشفت التطورات الأخيرة في مدينة القدس معالم الخطط الإسرائيلية لتحقيق هذه الغاية، والمتمثلة أساساً في سلخ أحياء فلسطينية كاملة عمّا يسمى حدود البلدية الإسرائيلية.
فطبقاً للمخطط الإسرائيلي، فإن البداية ستكون بسحب الهويات من نحو 120,000 فلسطيني يعيشون خلف الجدار الذي أقامته إسرائيل في سنة 2004، وفصل أحياء كفر عقب وسميراميس (كلاهما في شمالي المدينة)، ومخيم شعفاط وراس خميس وراس شحادة وضاحية السلام (شرقاً)، عن المدينة ذاتها. لكن المخطط الإسرائيلي لا يقف عند هذا الحد، إذ كُشف النقاب عن مخططات إضافية تشمل إخراج أحياء في داخل القدس الشرقية، وبينها العيسوية، شمالي شرقي المدينة، وجبل المكبّر وصور باهر وأم طوبا، جنوبي شرقي المدينة، من النطاق الإداري للقدس الكبرى.
ويقول خليل التفكجي، مدير دائرة الخرائط في "جمعية الدراسات العربية": "في العام 1973، أقرت الحكومة الإسرائيلية التي ترأستها آنذاك غولدا مئير بتقييد السكان الفلسطينيين في القدس بنسبة لا تزيد عن 22% من إجمالي عدد السكان في القدس بشطرَيها الشرقي والغربي." ووجد هذا القرار تعبيراً له في السياسات الإسرائيلية المطبقة في المدينة، إذ جرى تقنين رخص البناء الممنوحة للسكان الفلسطينيين، وهدم مئات المنازل الفلسطينية في القدس بداعي البناء غير المرخص، وقد ترافق ذلك مع تكثيف البناء الاستيطاني
على أراضي المدينة، وسحب هويات أكثر من 14,000 مقدسي منذ سنة 1967.
بيد أن التفكجي قال: "على الرغم من كل السياسات الإسرائيلية التي هدفت لتقييد أعداد السكان الفلسطينيين والحدّ منهم، فإن أعدادهم تزايدت من 70,000 إلى 350,000 كما هو الحال عليه اليوم، وسط تقديرات إسرائيلية بارتفاع هذا العدد ليصل بحلول العام 2040 إلى ما يعادل 55% من سكان القدس بشطرَيها."
ويضيف التفكجي: "إسرائيل التي حسمت القدس ديموغرافياً [لمصلحتها] من خلال مصادرة ومنع استخدام الفلسطينيين لنحو 87% من أراضي القدس الشرقية، تتجه الآن إلى حسم قضية القدس جغرافياً."
وفي هذا الصدد قال وزير شؤون القدس ومحافظ المدينة عدنان الحسيني: "منذ الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، وضعت الحكومة الإسرائيلية يدها على ما نسبته 35% من مساحة القدس للتوسع الاستيطاني، وأعلنت عن 30% منها مناطق تنظيمية، و22% منها مناطق خضراء لا يُسمح البناء فيها، والإبقاء على ما نسبته 13% لاستخدام المقدسيين." ويوجد حالياً في القدس الشرقية 15 مستعمرة إسرائيلية يعيش فيها 200,000 مستوطن، وفي المقابل فإن البلدية الإسرائيلية في القدس تصنّف 20,000 منزل فلسطيني في المدينة (أي ما يعادل 39% من مجمل المنازل) بأنها غير قانونية، لعدم تمكّن أصحابها من الحصول على تراخيص لإقامتها، بينما يحتاج الفلسطينيون، علاوة على ذلك، إلى 20,000 شقة فوراً لتلبية حاجات السكان.
وبعد أن شكلت المستعمرات الإسرائيلية سواراً استيطانياً حول المدينة، فإن الحكومة الإسرائيلية شجعت على الاستيطان داخل أحياء المدينة، كما يحدث في البلدة القديمة وراس العمود والصوانه، فضلاً عن تشجيع وضع اليد على منازل فلسطينية داخل الأحياء، وتحديداً البلدة القديمة وسلوان وراس العمود والطور والشيخ جرّاح.
ويقول مدير "مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية" زياد الحموري، إن السياسات الإسرائيلية هذه أدت إلى وضع المقدسيين أمام ثلاثة خيارات: أولاً، دفع أموال طائلة ثمن شقق، أو بدل استئجار شقق قائمة في المدينة؛ ثانياً، المجازفة بإقامة منازل من دون تراخيص؛ ثالثاً، الانتقال إلى المناطق خلف الجدار سواء
إلى منازل في الأحياء المقدسية التي عزلها الجدار، أو في الضفة الغربية.
واستناداً إلى القانون الإسرائيلي، فإن الفلسطينيين في القدس مقيمون وليسوا مواطنين، الأمر الذي يجعلهم عرضة لفقدان إقامتهم في المدينة في حال اعتبرت الحكومة الإسرائيلية أنهم غيروا مركز حياتهم.
ومركز الحياة يعني أن يملك الفلسطيني المقدسي من الإثباتات ما يؤكد أنه أقام في المدينة سبعة أعوام متواصلة، وهي ضريبة الأملاك "الأرنونا"، وفواتير كهرباء ومياه وهاتف وعقد إيجار أو شهادة ملكية، فضلاً عن شهادات تعليم للأبناء في مدارس القدس.
ويضيف الحموري: "وحيث إن السكان يرغبون بامتلاك ما يثبت إقامتهم في المدينة، فقد فضلوا الإقامة في منازل أقيمت من دون ترخيص في الأحياء المقدسية خلف الجدار، ولكن البلدية تصدر لأصحابها أو المقيمين فيها ضريبة الأرنونا." وعلى الرغم من أن البلدية الإسرائيلية لا تقدم خدمات في هذه الأحياء التي تحولت إلى عشوائيات مهملة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فإنها، في مقابل تحصيلها الضرائب من السكان في هذه الأحياء، تقبل بهم كمقيمين في القدس. ويبدأ ثمن الشقة البالغة مساحتها نحو 100 متر مربع في أحياء القدس خارج الجدار من 350,000 دولار، إلاّ إنها، وبمساحة أكبر، تصل إلى أقل من 100,000 دولار في الأحياء المقدسية داخل الجدار، أمّا الإيجارات فهي نحو 1000 دولار شهرياً خارج الجدار، وقرابة النصف داخله. ويُقدّر التفكجي أعداد المقدسيين في الأحياء داخل الجدار بما يتراوح بين 120,000 و150,000 مقدسي.
وترافق نزوح عشرات الآلاف من المقدسيين إلى الأحياء المقدسية خارج الجدار مع تعهدات حكومية إسرائيلية بعدم المس بمكانتهم القانونية باعتبارهم مقيمين في المدينة. وتقول "جمعية حقوق المواطن في إسرائيل": "قامت إسرائيل بتشييد جدار الفصل العنصري قبل عشرة أعوام بعد أن التزمت حكومتها أمام المحكمة الإسرائيلية العليا، وأصدرت قرارات حكومية تعهدت من خلالها باستمرار سير الحياة السويّ لدى سكان الأحياء المقدسية الذين ظلّوا وراء الجدار، إلى جانب الحفاظ على نسيج الحياة المشترك لمجمل السكان الفلسطينيين عبر جهتَي الجدار."
وتضيف الجمعية أنه وفقاً للتعهدات الحكومية الإسرائيلية فإن "تشييد الجدار لا يعني المسّ بحقوق سكان الأحياء الذين يعيشون في المنطقة التي احتلتها إسرائيل عام 1967، ويحملون بطاقات هوية إسرائيلية."
وتتابع: "تشييد الجدار وعدم تنفيذ التعهدات الإسرائيلية، حوّل الأحياء الفلسطينية في القدس إلى مناطق عشوائية، وعزل ثلث سكانها، ويُقدّر عددهم بـ 120,000، عن مركز حياتهم في القدس، والذين باتوا يعانون من حياة قوامها الإهمال المخزي." غير أن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، بدءاً من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وصولاً إلى رئيس بلدية القدس نير بركات، تشير إلى أن هذه التعهدات لم تكن سوى تكتيك لبعث حالة من الارتياح لدى عشرات الآلاف من السكان كي ينتقلوا إلى الأحياء خارج الجدار من دون خشية من العواقب.
كيف تبدو الخريطة الديموغرافية في القدس؟
ترسم إسرائيل خططها بشأن التعامل مع السكان الفلسطينيين في القدس وفقاً للكثافة السكانية، ومدى قرب الأحياء من المناطق المصنفة على أنها ضفة غربية. ويقول التفكجي: "استناداً إلى تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، فإن الحكومة الإسرائيلية تتجه إلى إخراج العديد من الأحياء من حدود ما يسمى ببلدية القدس، بحيث تُبقي فقط البلدة القديمة، وما يسمى الحوض المقدس في محيطها، والذي يشمل في أفضل الأحوال سلوان، راس العمود، والطور، ووادي الجوز، والشيخ جرّاح."
ويقول مفاوض فلسطيني كبير في حديث خاص إن طاقم المبعوث الأميركي السابق لعملية السلام مارتن أنديك طرح في سنة 2013 أن تكون بيت حنينا عاصمة للدولة الفلسطينية، وأن يتم ضم أحياء في المدينة إلى مناطق السلطة الفلسطينية. واستناداً إلى "مركز القدس لدراسات إسرائيل"، والذي يستند إلى معلومات وزارة الداخلية الإسرائيلية، فإن الخريطة الديموغرافية في القدس الشرقية في نهاية سنة 2013، كانت كما يلي:
كفر عقب (18,830 مواطناً)؛ بيت حنينا (35,810)؛ شعفاط (22,760)؛ مخيم شعفاط (16,330)؛ عناتا (6800)؛ العيسوية (14,830)؛ الطور (24,320)؛ وادي الجوز والشيخ جرّاح (17,120)؛ باب الساهرة (2300)؛ الحي الإسلامي في البلدة القديمة (28,180)؛ الحي الأرمني في البلدة القديمة (2260)؛ الحي المسيحي في البلدة القديمة (4450)؛ سلوان(19,080)؛ الثوري (13,010)؛ راس العامود (24,640)؛ جبل المكبّر (22,570)؛ صور باهر (15,550)؛ أم طوبا (3780)؛ بيت صفافا (12,070).
ويتفق التفكجي والحموري على أن الحكومة الإسرائيلية بدأت بالتمهيد لإخراج أحياء فلسطينية ممّا يسمى حدود بلدية القدس، لإيجاد أغلبية يهودية في المدينة. ويقول مستشار شؤون القدس في ديوان الرئاسة الفلسطينية المحامي أحمد الرويضي: "إسرائيل تريد من خلال هذه المخططات تحويل المدينة من مدينة عربية إسلامية ـ مسيحية إلى مدينة يهودية." ويضيف: "حكومة إسرائيل تمهد لشطب أحياء فلسطينية كاملة بهدف الإخلال في التوازن الديموغرافي لصالح اليهود، ليصبحوا أغلبية في المدينة، في حين تتحول بعض الأحياء الفلسطينية إلى جزر أقليات في بحر من المستعمرات اليهودية."
وفي هذا الصدد يقول مقدسيون إن وزارة الداخلية الإسرائيلية باتت تصر على أنه في حال امتلك الفلسطيني بطاقة شخصية تشير إلى أنه من سكان البلدة القديمة ومحيطها، بينما هو يقيم خارجها، فإن عليه تغيير مكان إقامته.
ويقول مراد الذي كان يقيم حتى فترة قريبة في الحي المسيحي في البلدة القديمة: "عندما توجهت إلى وزارة الداخلية، أصروا على عدم إتمام أي معاملة لي إلاّ في حال غيرت مكان إقامتي في الهوية إلى بيت حنينا حيث أقيم الآن، رغم أن عائلتي تمتلك منزلاً في البلدة القديمة حتى الآن." ويقول الحموري: "في المقابل ترفض وزارة الداخلية طلبات تغيير مكان الإقامة من خارج البلدة القديمة إلى داخلها."
هل إخراج أحياء فلسطينية من القدس ممكن؟
طبقاً لنتائج استطلاع للرأي العام الإسرائيلي أجرته صحيفة "معاريف" الإسرائيلية في مطلع تشرين الأول / أكتوبر الماضي، فإن 66% من الإسرائيليين اليهود يؤيدون انسحاباً إسرائيلياً من أحياء فلسطينية في القدس الشرقية. وقد أثار حديث رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو، في اجتماع للمجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون الأمنية والسياسية في تشرين الأول / أكتوبر، عن سحب الهويات ممّا يزيد على 120,000 فلسطيني في الأحياء الفلسطينية داخل الجدار، حفيظة حزب "ميرتس" اليساري الإسرائيلي الذي قال في بيان: "إن إخراج أحياء مقدسية [من النطاق الإداري للقدس الكبرى] يتطلب موافقة الكنيست الإسرائيلي." واعتبرت "جمعية حقوق المواطن في إسرائيل" أن حديث نتنياهو "عبثي"، وقالت: "لا يمكن وفق القانون سحب وإلغاء مكانة قانونية لمواطن، أو لمقيم بشكل عشوائي، أو بشكل جماعي."
غير أن الحموري قال: "من الناحية النظرية، فإن الأمر يحتاج إلى موافقة الكنيست الإسرائيلي، ولكن عملياً لا أرى أغلبية يهودية في الكنيست الإسرائيلي ضد مثل هكذا قرار، وعليه، فإنه قد يمر في حال اتُّخذ القرار السياسي الإسرائيلي، وهذا ليس مستبعداً في ظل المعطيات الحالية وما نسمعه من تصريحات."
[يعاد نشره ضمن اتفاقية تعاون بين "جدلية" و "مجلة الدراسات الفلسطينية"]